قامت الثورة مطالبة بالحرية والعدالة والكرامة. ولم تنجح هذه الثورة إلا بعد إنضمام التشكيلات العمالية التابعة للحكومة. وكان خروج هذه التجمعات العمالية بداية العصيان المدنى وإنهيار قبضة النظام. وإنطلقت بعد الثورة مجموعة من الإعتصامات والمظاهرات المطالبة بالعدالة الإجتماعية وتحسين ظروف العمل للعمال والموظفين وبالذات فى الهيئات والشركات الحكومية أكثر منها فى القطاع الخاص. وقد تبنى مجموعة من الناشطين السياسيين والإجتماعيين قضية العمال والدفاع عن حقوقهم وتحقيق العدالة الإجتماعية. وقد أرجح الكثيرون جشع رجال الأعمال للحالة البائسة التى وصل إليها وضع العمال فى مصر فى حين يشتكى أصحاب المصانع من حالة العمالة المصرية. وبما أننى قد تعرضت للقطاعان العام والخاص فى مجال صناعة النسيج والملابس، فإننى أود أن أعرض بعض مما رأيت ربما أستطيع أن أساعد فى تعريف بعض من المشكلات التى تواجه العمال وأصحاب العمل فى محاولة للوصول إلى حلول عملية بدلاً من إلقاء اللوم على أحد الطرفين بدون فهم العوامل المختلفة التى تؤثر فى العلاقة بين العامل وصاحب العمل. وأود أن أكرر أن هذه هى خبرتى الشخصية مجال صناعة الغزل والنسيج وليست بأى حال بحث علمى شامل.
يعانى القطاع الأكبر من المصانع من غياب نظم الإدارة الحديثة ويعتمد العديد منها على أساليب بالية فى التعامل مع العمال. وتفتقر النسبة الأكبر من المصانع إلى فكر تدريب وتنمية الموارد البشرية، ويقتصر التدريب على التعليم المهنى للعمالة بدون الإستثمار فى تدريب مديرين الخطوط والإدارة الوسطى التى تعتبر عماد هذه الصناعة. وترسخ الإنطباع لدى الإدارات العليا والوسطى أن مشكلة العمالة غير قابلة للحل إلا بالضغط وليس بالتدريب وتهيئة ظروف العمل. كما أن العلاقة بين ظروف العمل المناسبة مثال درجة الحرارة والإضاءة والمقاعد المريحة وبين إرتفاع الإنتاجية ليست علاقة يفهمها صاحب العمل فى النسبة الأكبر من المصانع. كما تفتقر العديد من المصانع إلى الخدمات الأساسية للعمالة من حضانة لأطفال العاملات أو دورات المياه النظيفة أو أماكن تناول الطعام الآدمية. وبالتالى ينعكس ذلك على مدى ولاء العمال للمصنع ومدى قدرتهم على الإنتاج وأصبحت هناك فجوة ضخمة ما بين الإدارة بمختلف درجاتها والعمالة فى إحساسهم بالإنتماء لمكان العمل.
ولكن المشكلة ليست مسؤلية صاحب العمل فقط، ولا دليل على ذلك أكثر من إستعانة العديد من مصانع الملابس بالعمالة القادمة من شرق آسيا. ويعتقد الكثيرون أن لجوء المصانع لإستقدام هذه العمالة هو من باب تخفيض التكاليف، وهو مفهوم خاطئ تماماً حيث أن إجمالى تكلفتها على المصنع تقترب من مرة ونصف تكلفة العامل المصرى إذا تم إحتساب تكاليف الإقامة وتذكرة السفر والمرتبات. وبالإضافة إلى هذه التكلفة المباشرة، يواجه صاحب العمل كل تحديات تشغيل العمالة الأجنبية من مشاكل روتينية مثال تأشيرات السفر وتصاريح العمل وتوفير الإقامة ومشكلة اللغة، إلخ.. وبالرغم من هذه التحديات إلا أن أصحاب المصانع يفضلون الإعتماد على العمالة الأجنبية لأن فارق التكلفة والمجهود يتم تعويضه من الزيادة فى الإنتاجية. ولا تحتسب الزيادة فى الإنتاجية بعدد القطع المنتجة وحسب ولكن أيضاً تقاس بعدد أيام الغياب عن العمل وعدد الساعات المهدرة فى اليوم وعدد القطع التالفة (الدرجة الثانية) التى يتحملها المصنع. مع العلم بأن مصانع التصدير فى مجال الملابس لا تزيد نسبة الربح بها عن 10% بل وقد تصل إلى 5% من إجمالى الدخل. وبما أن متوسط الأجور فى تكلفة الإنتاج فى هذه الصناعة تتراوح ما بين 30% إلى 50% حسب نوع المنتج فإن رفع الإنتاجية بمقدار 10% (أو الفارق ما بين تكلفة العامل الأجنبى والإنتاجية) يعنى خفص تكلفة الإنتاج بما يتراوح ما بين 3% و5% وهى نسبة كبيرة مقارنة بنسبة الربح فى هذه المصانع.
إذاً ما هى المشكلات التى يعانى منها أصحاب المصانع مع العمالة فى مصر؟
أولاً: التعليم والتدريب
نسبة كبيرة من العاملين فى صناعة الملابس عمالة غير مدربة وفى حالات كثيرة غير متعلمة وتتحمل المصانع عبء التدريب مع العلم بأن نسبة دوران العمالة من المصانع فى مصر تصل إلى 20% سنوياً وهى من أعلى النسب فى العالم فى هذه الصناعة. ويرجع ذلك إلى أن نسبة كبيرة من العاملين فى الملابس من السيدات التى تعمل فترة من الزمن لحين الزواج ثم تترك العمل بالإضافة إلى التنافسية الشديدة ما بين المصانع على العمالة وترك العمال المصانع للحصول على آجر أعلى. وبالتالى فإن تحمل المصانع تكلفة التدريب مقابل سرعة ترك العمل تؤثر تأثيراً مباشراً على ربحية المصنع.
ثانياً: ثقافة العمل
للأسف جزء مهم من التعليم الذى نفتقر إليه هو إرساء ثقافة العمل ومنها أهمية الإستخدام الأمثل للوقت والكفاءة وأهمية الجودة فى الإنتاج والإنضباط فى العمل والمبادرة. فمثلاً نسب غياب العاملين فى المصانع تصل إلى 10% فى، وترتفع أحياناً إلى 30% بعد الأعياد والإجازات الرسمية. كما أن الوقت الذى يتم إهداره فى تناول الطعام وإستخدام دورات المياه والصلاة أضعاف مثيله فى دول آخرى منافسة وهناك دراسات قد إحتسبت الوقت المهدر فى مصر فى حدود الـ 20% من وقت الإنتاج. ونجد الإفتقار إلى بعض البديهيات مثل غسل اليدان بعد الأكل للحفاظ على نظافة المنتج وأنه حتى بعد لفت النظر لهذه القواعد الأساسية يتم التحايل عليها وعد الإلتزام بها. ومن النظم التى لمستها فى العديد من المصانع ولم أفهمها فى بداية الأمر هى ظاهرة صرف المرتبات أسبوعياً وليس شهرياً، فإكتشفت أن العديد من المصانع كانت تعانى من ظاهرة غريبة وهى أن فى الأسبوع التالى لدفع المرتبات الشهرية كانت ترتفع نسبة غياب العمال وعند السؤال عن السبب إتضح أن نسبة كبيرة من العمال عندما يكون لديها ما يكفيها من المال تفضل الجلوس فى البيت ولا تنزل إلى العمل ثانياً إلا عند أنكماش ما لديها من مال. وبالتالى تحولت المصانع من صرف المرتبات شهرياً إلى إسبوعياً حتى لا يتم صرف مبلغ كبير للعامل مرة واحدة فيشجعه ذلك على الغياب عن العمل. كما نفتقر فى ثقافة العمل فى مصر إلى فكرة الجودة، نجد أن العين غير مدربة على إكتشاف الأخطاء وهو ليس عيب فى التدريب المهنى ولكنه عيب فى التعليم عامةً فى مصر وغرس ثقافة الجودة والدقة والإنضباط.
ثالثاً: الطموح
ومن الظواهر الآخرى التى لمستها فى عملى أن العديد من خريجى الجامعات الذين يدخلون هذه الصناعة فى مجالات إدارة الخطوط والإدارة الوسطى يتركون العمل فى المصانع عندما تجيئهم فرصة للإلتحاق بالقطاع العام أو بوظيفة حكومية قابلين بذلك مرتبات قد تصل إلى ثلث دخلهم من العمل فى القطاع الخاص. وحاولت أن أفهم الأسباب فوجدت سببان أساسيان: الأول: هو أن العمل فى القطاع العام يتم تثبيت العاملين به وبالتالى لا يتم الإستغناء عنهم والسبب الثانى هو أن العمل فى القطاع العام يتطلب جهداً أقل ولا يتطلب نفس الإنضباط فى العمل مثله مثل القطاع العام. وكلا السببان فى نظرى غير كافيان للتخلى عن ثلثى المرتب. فليس هناك ما يدعى مصنع أن يتخلى عن عامل أو موظف يؤدى عمله على أكمل وجه وبالتالى ليس هناك ما يدعو شخصاً أن يقلق على دخله إلا إن شك فى قدرته على مواصلة العمل الجاد كما أن طموحى الشخصى لا يسمح لى أن أتنازل عن ثلثى دخلى مقابل عمل أقل وبالتالى لا أستطيع تقبل السبب الثانى.
مثال آخر يعبر عن حجم الطموح فى نطاق العمل فى المصانع هو رفض نسبة كبيرة من العمال الأجر بنظام الإنتاجية وتفضيلهم العمل بنظام المرتب الشهرى. عندما بدأت العمل فى الصناعة، أردت أن أطبق أحد أفكار الإدارة المنتشرة فى هذا القطاع فى دول آخرى منافسة، وكانت أحد النظم هى إحتساب الأجر بنظام الإنتاجية أو القطعة. فوضعت طريقة لإحتساب أجر للقطعة بحيث يحصل العامل على نفس الآجر مقابل نفس الإنتاجية فى ذلك الوقت على أن أى زيادة فى الإنتاجية عن المستويات الطبيعية آن ذاك كانت ستترجم إلى دخل أعلى للعاملين. وبدأت بالفعل فى أحد خطوط الإنتاج على سبيل التجربة، فجلست مع العاملين وتحدثت معهم عن النظام المقترح وكيفية إدارته والعائد المنتظر عليهم كما سمعت مقترحاتهم وقوجئت أن العديد منهم لم يحبذ هذا النظام. وبالرغم من ذلك تم الإتفاق على البدء فى العمل بالنظام المقترح فى الشهر التالى. وبالفعل تم تطبيق النظام وفى خلال أول أسبوع ظهرت النتيجة بزيادة الإنتاجية فى حدود الـ 10% وبالتالى زادت أجور جميع العاملين بنفس النسبة. فتخليت أننى حللت مشكلة أزلية فى المصنع وتوقعت أن يؤثر ذلك فى نسب الغياب والحضور. ولكننى فوجئت بعد الأسبوع الثالث بالعاملين على الخط التجريبى يطلبون إجتماع لمناقشة النظام الجديد. وعندما جلست معهم طلبوا الرجوع للنظام القديم وذلك لأن مجموعة منهم وجدت أن المجموعة الآخرى أعلى إنتاجية وبالتالى أعلى فى الأجور وهو شىء مرفوض لديهم وخاصةً بالنسبة للعمالة الأقدم والتى رأت حصول بعض العاملين الأصغر سنناً على دخل أعلى أمر غير مقبول. وبالرغم من أن هؤلاء زادت دخولهم عن المرتب الأسبوعى العادى لم يستطيعوا تقبل فكرة أن يحصل شخص آخر على عائد أعلى منهم. وبالتالى إقترحت نظام آخر وهو أن يتم إحتساب الإنتاجية على الخط بالكامل وليس لكل شخص على حدى وبالتالى يتم توزيع نسبة الزيادة بالتساوى، وبالرغم من إعتراض المجموعة التى حصلت على آجر أعلى من نظام إنتاجية القطعة قمنا بتجربة النظام المقترح ولكن للأسف فى خلال أسبوع قامت العديد من المشحانات بين العاملين وإتهموا بعضهم البعض بتعطيل الإنتاج وطالبوا جميعهم بإلغاء النظام والعودة إلى الأجر الثابت.
إن صعوبة تحفيز العمالة لإنتاجية أعلى فى مقابل مادى أحسن من الظواهر التى لمستها كثيراً فى عملى وبالرغم من تكررها إلا إننى حتى اليوم لا أستطيع فهم أسبابها ولا تقبلها. والأمثلة عديدة منها رفض العديد من العاملين الإلتحاق بدورات تدريببة لرفع الكفاءة أو رفض ترقيات تتطلب عمل أكثر فى مقابل مادى أحسن.. إلخ. ووجدت أن العديد من العاملين يفضل المرتب الثابت عن فرصة لدخل أعلى ولكن مرتبطة بالكفاءة ولا أعرف إن كانت هذه الظاهرة ترجع إلى عدم ثقة الشخص فى قدراته أم هى نوع من أنواع التكاسل والإستسهال أم هى غياب لقيمة الطموح المادى أم نوع من الخوف. ولكن الظاهرة واضحة فى مجالات عديدة ولمستها فى نسبة كبيرة من العاملين.
رابعاً: الفساد
لم ألمس هذه المشكلة إلا فى مصانع القطاع العام وقد ذكرتها بتفصيل أكثر فى مدونة سابقة حيث لمست حجم الفساد فى المصانع الحكومية وفى بعض المصانع التى تم خصصتها.
ربما أكون قد أعطيت مساحة أكبر للمشكلات التى تواجهها المصانع عن المشكلات التى يواجهها العمال وذلك لأننى أرى العديد من المدافعين عن حقوق العمال ولكن لم ألمس فهم حقيقى للتحديات التى تواجه أصحاب العمل. ولكن هذا ليس دفاعاً عن أخطاء أصحاب المصانع، فهناك قطاع كبير يوظف عمالة غير رسمية فى مقابل أجور متدنية وظروف عمل خطرة وغير آدمية. وفى الوقت نفسه لا أريد أن أقوم بتعميم المشكلات فقد حالفنى الحظ بالعمل مع مجموعات من العمال الأكفاء والمنضبطين والطموحين. ولكن المقصود بهذا المقال هو إلقاء الضوء على بعض السلبيات الناتجة عن غياب التدريب والذى سيساهم فى النهوض بحال العمال فى مصر بل أن التعليم الجيد سوف يساعد العمال على فهم حقوقهم والعمل على تشكيل النقابات الخاصة بهم والدفاع عن حقوقهم. والتركيز على تدريب الإدارة الوسطى من أحد أهم العوامل التى سوف تساعد على النهوض بحال العمل والعمال وأصحاب المصانع حيث أن الإدارة الوسطى هى أحد مقومات الإنتاج الرئيسية والتى تحظى بإهتمام قليل. وبالطبع فإن أحد النقاط الرئيسية التى لم أتطرق إليها فى المقال هى قانون العمل المجحف للعمال وأصحاب العمل ساوسية.
ندعم موقعك دائما بكل الوسائل التسويقية التي تصل بأهدافك المطلوبه إلى أعلى النتائج وتحسين ترتيب موقعك بمحركات البحث .
ReplyDeleteنقدم لك التكلفة المناسبة لحجم اعمالك والجودة العالية ويبكس لخدمات التسويق الالكترونى و اشهار المواقع دقة الاداء وسرعة التنفيذ + سعر مناسب لكافة الخدمات
للاستفسار يمكنكم التواصل على 01000250135
http://www.whipixemarketing.com/