يتحدث الكثيرون عن إسلامية الدولة وعن المشروع الإسلامي. وفى حقيقة الأمر أن المشروع الإسلامي هو مشروع هوية ومشروع إجتماعي ولكنه ليس مشروع نهضة، لأنه على المستوى السياسي و الإقتصادى يضع بعض الخطوط العريضة والأفكار المتانثرة ولكنها لا تمثل نظام كامل الأطراف. الحديث عن تطبيق الشريعة معني بالدرجة الأولى بقضايا إجتماعية ولكنه لا يحتوى على نظام إدارى أو سياسي أو إقتصادي. وقد يفسر ذلك الإتجاهات التى يتبناها مجلس الشعب "الإسلامي" حيث يعطى وزن أكبر بكثير للقضايا المعنية بالهيكل الإجتماعي عن القضايا المعنية بالإقتصاد والسياسة.
وقد يرد البعض أن الإسلام يضع نظام إقتصادي وسياسي متكامل لإدارة الأمة ولكن كما أشرت أعلاه فإنه يضع بعض الخطوط العريضة والتى لا تمثل نظام كامل.. فإن إعتبرنا إن الشورى هى إحدى ملامح النظام السياسي الإسلامي فإن الإسلام لم يحدد آلية واضحة لتطبيقها فى إتخاذ القرارات على مستوى الدولة وتُرك للناس حرية إختيار ما يناسبهم من أليآت. فلم يحدد عدد الناس المطلوب إستشارتهم ولا طريقة إختيارهم ولا آلية إتخاذ القرار بينهم إلخ.. ولم يحدد إن كان النظام مركزي أو يميل أكثر إلى المحلية كما لم يحدد هيكل الشورى وشكل السلطات وعلاقتها ببعضها البعض.. وكذلك بالنسبة للإقتصاد فالنظام قائم على فكر قد حاول البعض شرحه على أساس إنه نظام متكامل ولكنه فى حقيقة الأمر يعطي أيضاً خطوط عريضة وفلسفة عامة ولكنه لا يحدد أليآت دقيقة. وبالتالى ترك الإسلام الشقين السياسي والإقتصادي لما يراه القائمين على إدارة البلاد. بل وحتى النسبة الأكبر من القضايا الإجتماعية والحياتية اليومية تُركت لما يراه الحاكم فلم يحدد أشكال التعليم أو أداب البحث العلمي أو طريقة بناء العقارات أو أساليب الزراعة أو إدارة العلاقات الخارجية إلخ..
لذلك فإن المشروع الإسلامي هو مشروع هوية وليس مشروع نظام متكامل. قد يكون رد فعل لسنوات من محاولات لتشويه الهوية قد مر بها الشعب المصري حين فُرض عليه نظام إجتماعي غريب عنه. وجوهر هذا المشروع هو تصور أنه إذا تم إصلاح أخلاق الناس بالإسلام صلحت معها الدولة والشعب وتحققت العدالة وعم الرخاء. والخطأ الأول فى هذا الفكر هو نفس خطأ جمال عبد الناصر وزعماء الشيوعية فى تطبيق الفكر الإشتراكي وهو الإقتناع بأن السياسات الفوقية قادرة على تغيير فكر المجتمع. فتصور عبد الناصر أن توزيع الثروات سوف يحقق العدالة ولكن الحقيقة هى أن توزيع القدرات هو ما يحقق العدالة وترسيخ فكرة المساواة هو ماسوف يخلق مجتمع يفكر ويطالب بالإشتراكية. إن العمل على تغيير الفكر فى المجتمع هو ما يؤدى إلى تعديل السياسات وليس العكس. وخاصةً أن جوهر المشروع الإسلامي فى النهاية هو نظام إجتماعي وليس نظام سياسي أو إقتصادي والخلط بين ما نص عليه الإسلام نصاً صريحاً وما وضعه البشر ونسبوه إلى الإسلام سوف يوجه غضب الناس من فشل بعض أو كل هذه السياسات الوضعية إلى تحميل الدين مسؤلية هذا الفشل.
والخطأ الثاني فى فكرة المشروع الإسلامي الإقتناع بأن هناك ما يدعى اليوتوبيا الإسلامية وأقتبس هنا مقطع من بحث لأحد الشيوخ الأفاضل (لم يعطنى حق ذكر أسمه) عن فكرة المدينة الإسلامية الفاضلة نقلته فى نهاية المقال*. ويرى الباحث أنه لا وجود لمثل هذه المدينة. ونظراً لطول البحث فلم أنقله كله ولكن فى مقاطع آخرى يسرد الباحث مجموعة من الأمثلة للحروب التى قامت بين الجماعات الإسلامية المختلفة على مدار العصور للسيطرة على الخلافة تحت مسميات تكفير الآخرين أو توجيه الإتهامات لهم بعدم الإلتزام بالدين إخترت منها لمحة سريعة للتعبير عن المعنى**.والملخص فى نهاية الأمر أنه لا وجود لهذه المدينة الفاضلة حتى وإن كان القائمين عليها مسلمون مؤمنون خالصين فى نواياهم.
إن المشروع الإسلامي بشكله السياسي المطروح والأليآت القليلة المقترحة لتنفيذه لن تكون نتيجتها دولة إسلامية حقيقية وشعب مسلم بالشكل الرومانسي الذى يطرحه التيار الإسلامي السياسي بل سوف يتحول إلى نظام مشوه يضع قوانين وأليآت تعطى شكل خارجى إسلامي ولكنها فى جوهرها هى سياسات وضعية بشرية قابلة للنقض والتعديل بل وسوف يصاحبها قدر غير قليل من القمع الفكري والأمني لحماية ما يتخيل البعض أنه مشروع إلهى . ولكن الحقيقة هى أنه نظام سياسي لا يختلف بمحاسنه ومساؤه وفساده عن أى نظام سياسي آخر. وإن كان الهدف هو إقامة دولة إسلامية فالأجدى بالجماعات الإسلامية إستكمال العمل الدعوي الذي يؤثر فى فكر البشر وليس المحاولة لفرض سياسات فوقية لا تؤثر إلا فى فى قشور تصرفات الناس ولا تغير مما فى قلوبهم. إن ما سوف يحدث من تشويه للإسلام تحت مسمى المشروع الإسلامي قد يؤدى فى النهاية إلى مجتمع ينبذ الدين بسبب من إدعوا تمثيله وإستباحوا القمع بإسمه.فإن كانت الثورة قد أتت بفائدة للمشروع الإسلامي والجماعات الإسلامية فالفائدة الحقيقية هى المزيد من الحرية فى العمل الدعوي والتحرك فى الفكر والبحث والقدرة على الحد من التدخل السياسي فى الدين والقدرة على عزل التيارات المشوهة. أما إستغلال هذه الفرصة لفرض مشروع غير حقيقي وإبتداع نظم لم يفرضها الإسلام ونسبها إليه هو أقصر طريق لتشويه الدين ودفع الناس إلى كرهه. أتمنى أن يثوب الإسلاميين الحق إلى رشدهم ويروا إلى أين يقودنا السياسيون المتأسلمون.
____________________________________________________
*المدينة الإسلامية الفاضلة؟
هذه المدينة دستورها القرآن،وأهلها يعملون به في طهارة ملائكية،وحياتهم جنة موعودة على الأرض،والبؤساء المقهورون والسذج الغافلون والمتحمسون المتطلعون جميعهم الآن في شوق جارف إلى تلك المدينة،فلم لا يبشرون أنفسهم بها استرواحا من جحيم العيش وتحقيقا لأحلام اليقظة وإشباعا للحماسة والغرور؟
هل كانت هذه المدينة؟ وهل يمكن أن تكون؟
إن القول بأن مجرد التمسك بالإسلام وإنفاذ أحكامه يحقق وحدة المسلمين ويحل مشكلاتهم مخالف لواقع التاريخ الإسلامي كما سيأتي بيانه،بل ومخالف للإسلام نفسه،لأن الشريعة الإسلامية لم تستبعد اقتتال المؤمنين والبغي بينهم فوضعت له أحكاما،مما يعني تصور وقوعه بين المسلمين،ولم تستبعد السرقة والقتل العدوان والرشوة وغيرها من الموبقات ومفاسد المجتمعات فوضعت لها أحكاما،وهذا التصور الشرعي لوقوع تلك المفاسد في مجتمع الإسلام يناقض تماما ما يزعمه أصحاب الشعار من التبشير بالمدينة الإسلامية الفاضلة التي يحل الإسلام مشكلاتها ويجعلها جنة الله على أرضه.
وقد توهم قوم قديما مثل هذه الأوهام،وحملوا أوهامهم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب،يطالبونه بتلك المثالية،فكان ما رواه الإمام الطبري في كتاب جامع البيان:
حدثني يعقوب بن إبراهيم،قال ثنا ابن علية،عن ابن عون،عن الحسن أن ناسا لقوا عبد الله بن عمرو بمصر،فقالوا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها،فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه،فلقيه عمر رضي الله عنه،فقال متى قدمت؟ قال منذ كذا وكذا،قال: أبإذن قدمت؟ قال فلا أدري كيف رد عليه،فقال يا أمير المؤمنين،إن ناسا لقوني بمصر فقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى أمر أن يعمل بها ولا يعمل بها،فأحبوا أن يلقوك في ذلك،فقال اجمعهم لي،قال فجمعتهم له - قال ابن عون أظنه قال في بهو - فأخذ أدناهم رجلا،فقال أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك،أقرأت القرآن كله؟ قال نعم،قال فهل أحصيته في نفسك؟ قال اللهم لا،قال ولو قال نعم لخصمه،قال فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ قال ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم،فقال ثكلت عمر أمه،تكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات،قال وتلا {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} هل علم أهل المدينة أو قال هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا لا،قال لو علموا لوعظت بكم.
أخرجه ابن جرير،وقال ابن كثير: إسناد صحيح ومتن حسن.
والمغزى من القصة واضح:لا وجود لمثل تلك المدينة.
وإذا كان التبشير بتلك المدينة مخالفا لواقع تاريخ الإسلام،ولبناء الشريعة،ولفهم عمر بن الخطاب،فلم يبق أمام المبشرين إلا الترويج لها بأحاديث غريبة شاذة ومحتملة للعديد من المعاني،فقد زعم إخواننا أن الحديث قد بشر بخلافة على منهاج النبوة تأتي بعد الملك العضوض والجبرية،وأنهم سيحققون تلك الخلافة،والحقيقة أن هناك حديثا رواه الإمام أحمد في مسنده ولم يروه غيره من أصحاب الكتب الستة ولا غيرها من كتب الحديث المشهورة وهذا نصه:
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثني داود بن إبراهيم الواسطي حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال:
(كنا قعودا في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بشير رجل يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت.
قال حبيب فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه،فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين يعني عمر بعد الملك العاض والجبرية،فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه.)
فالراوي - وهو أعلم بالمعنى - يفسر الخلافة المذكورة بخلافة عمر بن عبد العزيز ويؤيده على هذا الفهم يزيد بن النعمان بن بشير وعمر بن عبد العزيز نفسه،ولكن المستشهدين بالحديث يخفون هذا الجزء ويقتطعون من الحديث ما يخدم أهدافهم على طريقة "لا تقربوا الصلاة"،فضلا عن مخالفة الحديث لما رواه الترمذي وأحمد وصححه ابن حبان وغيره "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا" وليس فيه تلك الزيادة.
وما لنا وللمدينة الفاضلة،فلا هي ممكنة الوجود في الدنيا،ولا كلفنا الله بإقامتها،ولا وعدنا بها،إننا مكلفون بإقامة الدين،عملا بأحكامه،ودعوة إليه،وحماية له،نفعل ذلك طاعة لله ورجاء مثوبته،لا طمعا في رغد العيش وزهرة الحياة الدنيا،أما رجاء نعيم الدنيا بعمل الآخرة فإنه قدح في الإخلاص لله،ومخالفة لنظام الحياة،ينصرف عنه العقلاء،ولا يتحقق معه الرجاء،ويحل محله اليأس والقنوط،وقد ينتهي إلى التشكك في الدين.
** دولة الإسلام في التاريخ
لقد دعا العباسيون لدولتهم مع قيام الدولة الأموية،ومن قبلهم خرج الأمويون على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ولم يسلموا بخلافته وحاربوه حتى قتل،ولم يسلم عبد الله بن الزبير بالخلافة للأمويين وتسمى باسم الخليفة ودارت بينهم الحروب،واستمر الخروج على مدار تاريخ الإسلام فكان في الشرق في بغداد خلافة عباسية وفي الغرب في الأندلس خلافة أموية،ودام ذلك قرونا،وظهر في تلك الأثناء وبعدها دول كثيرة متزامنة ومتتابعة في الشرق والغرب كالدولة الإخشيدية والطولونية والأيوبية ودولة الموحدين والمماليك والعثمانيين،واجتمع في الأندلس في زمن واحد ستة يسمي كل منهم نفسه خليفة المسلمين،فليقل لنا الإسلاميون أي من تلك الدول المتصارعة التي قامت كل منها على الخروج على سابقتها هو دولة الإسلام؟ إذا كانت واحدة بعينها في الزمن الواحد فكل دولة منها تدعي أنها هي،في خلاف لم يحسمه إلا الحرب والاقتتال،وكلهم مسلمون وفيهم الصحابة والتابعون والعلماء والصالحون،والدين مزدهر وأحكامه سارية وحدوده نافذة،فهل أغنى ذلك عن الصراع والقتال والبغي والعدوان كما يبشرنا به رافعو الشعار؟ وإذا كانت تلك الدول كلها إسلامية شرعية فقد ثبت جواز تعدد الدول الإسلامية في الزمن الواحد،وهو خلاف ما يدعون إليه،وثبت أن الدين طالما استغل كذريعة لوصول طوائف إلى الحكم على مدار تاريخ الإسلام،ولا تعدو دعوتهم أن تكون حلقة في تلك السلسلة،أما إذا لم تكن تلك الدول إسلامية شرعية فقد ثبت خلو تاريخ الإسلام من دولة موحدة للإسلام - باستثناء سنين قليلة من الخلافة الراشدة - مع وجود الإسلام دينا مزدهرا في تلك الدول ووجود الأئمة وأكابر العلماء،ومع هذا لم يكن الإسلام بذاته حلا يحقق وحدة المسلمين،وهو خلاف ما يقولون ويدعون إليه.
No comments:
Post a Comment